تزخر المناظر الطبيعية الجميلة في منطقة فينان والمجتمعات التي تعيش فيها بتاريخ غني وفريد، حيث يمكننا القول أن منطقة فينان فيها أكبر سلسلة من تاريخ الإستيطان البشري في العالم وما تزال البحوث جارية لمعرفة المزيد عنها. فقد استقرت في فينان أوائل المجتمعات الإنسانية وتعد واحدة من أقدم وأهم مراكز استخراج النحاس في العالم القديم والتي لا تزال محافظة على شكلها القديم بسبب توقف التنقيب في وقتنا هذا.
المجتمعات الأولى
يعود الوجود الإنساني في فينان إلى ما قبل 450,000 عام إلا أن أولى بصماته التاريخية الهامة كانت في العصر الحجري الحديث 10,000-5,000 قبل الميلاد، والذي شهد نقلة نوعية في التطور الإنساني وهي تغيُّر أسلوب حياة الإنسان من الارتحال وصيد الحيوانات من أجل البقاء إلى الاستقرار في منازل دائمة وممارسة الزراعة وتربية الحيوانات واعتناق الأديان للمرة الأولى في التاريخ، وقد وضعت هذه الفترة أساسات الحياة التي نعرفها الآن.
ويعود تاريخ المواقع المحيطة بفينان إلى بداية هذه النقلة التي وقعت قرابة العام 9600 قبل الميلاد حيث تضم واحداً من أقدم مواقع "الاستقرار" في العالم. كما تحتوي هذه المواقع على مدرج مميز كان يُستخدم من أجل إقامة الطقوس التي كانت جزءاً من الحياة الاجتماعية وتسهيل اجتماع الأفراد مع بعضهم. وتوجد بالقرب من هذا الموقع منطقة فيها مبنى أُعيد بناؤه مستوحى من مباني تلك الفترة التي يمكن للزوار أن يتوجهوا إليها.
بدايات إنتاج النحاس
بدأ استخراج النحاس الخام من الأرض منذ العصر الحجري الحديث وتم استخدامه في صنع الحلي وتزيين المنازل. ومنذ عام 5000 قبل الميلاد، كان النحاس يُنقل إلى صحراء النقب لمعالجته ضمن آلية معينة وتحويله إلى معدن صافٍ، وفي بداية العصر البرونزي عام 3600 قبل الميلاد بدأ سكان فينان بإذابة النحاس بأنفسهم.
تدل بقايا القرى في المنطقة على وجود ورشات لإنتاج النحاس وغيرها من المهن اليدوية كصنع الحلي بالخرز وصناعة الفخار والنسيج، بينما تحتوي المواقع الأكبر حجماً على خط للإنتاج لصناعة المنتجات النحاسية. وتنتشر المناجم ومواقع صهر النحاس في منطقة فينان بقدرة إنتاجية تبلغ 300-500 طن من النحاس وذلك خلال العصر البرونزي المبكر.
عصر صناعة الحديد والذكر في العهد القديم
وصل إنتاج النحاس في فينان إلى مستوى صناعي خلال العصر الحديدي (الممتد من عام 1200 قبل الميلاد إلى عام 500 بعد الميلاد)، حيث يرتبط هذا النشاط الصناعي مع المملكة الأدومية وأتى ذكر منطقة فينان ثلال مرات في العهد القديم (سفر التكوين 36، وسفر أخبار الأيام الأول 1، سفر العدد 33) باسم فونون/فينون على أنها كانت محطة توقف فيها اليهود أثناء خروجهم من مصر.
ظهرت الحاجة إلى تنظيم إنتاج النحاس بعد الرخاء المعيشي الذي أحدثه استخراجه، وهو أمرٌ ساهم في ظهور المجتمعات الأكثر تعقيداً. وقد تركز الإنتاج شمال وادي فينان ويظهر ذلك من خلال وجود آثار ضخمة لحصن وأبنية إدارية لحراسة المعدن الثمين، حيث يوجد حوالي 250 منجم في منطقة فينان عائد إلى هذه الفترة التاريخية بإنتاج يتراوح ما بين 6500 و 13000 طن من النحاس وذلك أثناء العصر الحديدي.
سيطرة الإمبراطورية الرومانية
شهدت منطقة فينان ازدهاراً في إنتاج النحاس خلال الفترة الرومانية، فقد بدأ عند نهاية القرن الميلادي الأول لتصبح منطقة فينان – فينو في ذلك العصر – من أهم المناجم في منطقة شرق المتوسط، فقد كان المنجم الرئيسي في منطقة "أم العمد" من أكبر مناجم النحاس في الإمبراطورية الرومانية. وقد بلغت الكميات التي تم إنتاجها خلال الفترة الرومانية التي استمرت عدة قرون إلى قرابة 2500 إلى 7000 طن من النحاس.
من هنا أصبح فينان جزءاً من صناعة مزدهرة حول العالم في تلك الفترة، حتى أن بقايا عملية الصهر وُجدت في قطع معدنية داخل الأجزاء الجليدية من جرينلاند. وقد أدى ازدهار هذه الصناعة إلى ظهور "مناطق صناعية" متخصصة تحتوي على خزانات للمياه وطواحين ماء ومزارع تُنظم تصنيع النحاس وإطعام الأيدي العاملة الكثيرة التي يحتاجها العمل في هذه المناطق.
العبيد المسيحيون والعهد البيزنطي
كان العمال الذين يعملون تحت إدارة الرومان مدفوعي الأجر ومن سكان المنطقة، إلا أن جزءاً لا بأس به منهم كان من المجرمين المحكومين بعقوبة "ميتالا" التي تعني حرفياً الموت خلال العمل بالمناجم، لأن عمال المناجم وصهر النحاس الخام كانوا عُرضة لمواد كيميائية سامة وظروف عمل قاسية ومعاملة وحشية، حتى اشتهرت قسوة هذه العقوبة في فينان بالذات وانتشرت سمعتها على مستوى الإمبراطورية إلى أن ذكرها المؤرخون القدامى منهم إسابيوس. وهنا يرد تعليق كاتب حول هذه العقوبة قائلاً:
"يجب أن يُرسلوا للعمل في المناجم، وليس أي منجم إنما منجم فينان فهناك لا يستطيع قاتل مُدان أن يبقى على قيد الحياة إلا لبضعة أيام"
وقد كان المسيحيون يُرسلون إلى فينان ضمن ظاهرة "الاضطهاد المسيحي" التي بدأت عام 303 بعد الميلاد، ولهذا السبب تشكل في المنطقة نواة مجتمع مسيحي ولكنه سرعان ما قُضى عليه بوحشية في عهد الإمبراطور ماكسيمينوس الذي أعدم رجالاته وكل من هو عاجز عن العمل. وعندما اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية أصبح فينان موقعاً للحج لتكريم الشهداء الذين ماتوا فيه وأصبحت مقراً لأسقف، حيث وُجدت بقايا لثلاثة كنائس ودير بالقرب من فينان بالإضافة إلى عدد عدد من المقابر المسيحية في المنطقة المحيطة به.
تتوفر لدينا برامج مسارات جبلية لاستكشاف هذه الكنوز الأثرية- للمزيد من المعلومات اقرأ صفحة النشاطات